لا يرث الكائن الحي صفاته فقط من والديه بل يرث بيئته كذلك!
لفالسمكة ترث قدرات تمكنها من الحياة في البحر مثل الزعانف والخياشيم ولكنها ترث
البحر كذلك. والطفل البشري يعيش في مجتمع من الناس ولذلك فإنه يولد مجهزاً بالعديد من الأدوات التي تتيح له التفاعل والتعلم في هذا المجتمع فقد وجد ملتزوف (Meltzoff) أن حديثي الولادة عند عمر الأربعين دقيقة يستطيعون تقليد الوجه البشري وحركاته، فكان يمد لسانه لهم ويمدون ألسنتهم له في المقابل.<sup>(1)</sup>
تشير هذه الدراسة إلى أن الطفل البشري يولد ولديه صورة واضحة في ذهنه عن الوجه
البشري وقدرة على تقليد حركاته ورغبة ملحة في التفاعل والتواصل معه.
لا تأتي هذه القدرات دون فائدة، فالطفل البشري يولد في مجتمع من الناس يرغبون في التفاعل معه ورعايته وتعليمه، ففي حين أن والدة الطفل الشمبانزي تستحوذ على طفلها بالكامل وتمنع أيا كان من الإقتراب منه، فإن الصورة تكون مختلفة تماما عند الطفل الإنسان، فعند عمر العام تتحمل الأم فقط 50 % من مسؤولية رعاية الطفل أما الباقي فيتحمله جمهور كبير من الناس وعلى رأسهم الاخوة الأكبر عمراً، الأجداد، الأقارب والأصدقاء.<sup> (2)</sup>
يتيح هذا التفاعل للطفل صقل مهاراته الاجتماعية بشكل أكبر فيظهر لديه بحلول عامه الأول ما يسمى ب” الانتباه المشترك” <sup>(3)</sup> إذ يراقب الطفل البالغين في عالمه باهتمام بالغ وهم يعملون على الأشياء، فتصبح علاقته بعالمه ثلاثية الأبعاد، الطفل- البالغ- الأشياء.
يكتشف الطفل من خلال هذه المراقبة بأن حركات البالغين من حوله ليست مجرد حركات عشوائية لا معنى لها بل حركات ذات معانِ وأهداف. فقد حاول ملتزوف (Meltzoff) دون جدوى فك قطعتين ملتصقتين أمام جمهور من الأطفال عند عمر السنة والنصف، عندما قدم لهم هذه اللعبة لم يقوموا بتقليد حركاته فقط بل قاموا فعليا بفك القطعتين، يظهر ذلك بأن الأطفال كانوا يفهمون الهدف من حركات ملتزوف <sup>(4)</sup>
سيفهم الأطفال اذاً عالمهم بشكل مختلف فهذا أبي يحاول فتح الثلاجة وهذه أمي تشرب من الكوب، وليس مجرد اشخاص يقومون بحركات دون معنى. يتعلم الأطفال بهذه الطريقة استعمال الأدوات ووظائفها، وحيث أن لسلوك البشر أهداف وغايات تصبح مراقبة الناس أكثر متعة إذ يبدأ الطفل بمحاولة فهم السلوك البشري. ليس هذا فحسب! سيبدأ الطفل بمشاركة الآخرين اهتماماته فإذا أعجبته لعبة معينة فإنه سيشير إليها أو سيحملها ويضعها أمام والدته.
وقد وجد وبر (Wobber) في دراسته <sup>(5)</sup> بأن القدرات الاجتماعية سابقة في ظهورها على قدرات فهم الظواهر المادية والفيزيائية وبالتالي فإن الإنسان يتعلم عن طريق المجتمع المحيط به سواء كان الذي يتعلمه هو تاريخ العائلة، كيفية استعمال الأدوات أو حتى الرياضيات، الفيزياء، والكيمياء.
تستمر هذه القدرات بالتطور إلى أن تنبثق لدى الطفل قدرات التواصل عن طريق اللغة وهي أداة ذات فعالية كبيرة في التعلم الإجتماعي واللغة هي ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن يطورها الإنسان إلا من خلال تفاعله مع الناس من حوله. تظهر معظم هذه القدرات في السنوات الثلاثة الأولى من حياة الطفل ولذلك فإن هذه السنوات تعتبر هامة وتأسيسية.
وكما أن لتعاطي المجتمع دور أساسي في تطويرها، إلا أن هذا التطوُّر لا يمكن أن يحدث دون دماغ سليم فقد وجد العلماء بأن للحديد دور أساسي في بناء وتطور الدماغ وبأن نقصه يؤثر بشكل كبير على أداء الطفل الاجتماعي <sup>(6) </sup>ولذلك فإن مكافحة نقص الحديد في هذه السنوات المفصلية يعد هدفا مشروعا لطبيب الأطفال والأهل وداعمي الطفولة بشكل عام.
د.فرات كريشان
أخصائي أطفال وحديثي الولادة
عرض المصادر- Meltzoff, A.N. and Moore, M.K. (1983). “Newborn Infants Imitate Adult Facial Gestures”, Child Development, 54, 702-709
- Hrdy, S 2006. Evolutionary context of human development: The cooperative breeding model. In Attachment and Bonding: A New Synthesis, ed. C. S. Carter, L. Ahnert, K. E. Grossmann, S. B. Hrdy, M. E. Lamb, S. W. Porges, and N. Sachser, 9_23. Cambridge. MA: MIT Press.
- Scaife, M and Bruner, J. 1975. The capacity for joint visual attention in the infant. Nature, 253: 265–266
- Meltzoff, A. N. (1995). Understanding the intentions of others—reenactment of intended acts by 18-month-old children. Developmental Psychology, 31(5), 838–850
- Wobber V, Herrmann E, Hare B, Wrangham R, Tomasello M. Differences in the early cognitive development of children and great apes. Developmental Psychobiology.
- ozoff B, Smith JB, Kaciroti N, Clark KM, Guevara S, Jimenez E. Lozoff B, et al. J Pediatr. 2013 Nov;163(5): 1260-6.